فصل: فصل: في الكلام على الأحاديث في زيارة قبر النبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصل

وأما الحديث المذكور في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فهو ضعيف، وليس في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حديث حسن ولا صحيح، ولا روي أهل السنن المعروفة، كسنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي، ولا أهل المسانيد المعروفة، كمسند أحمد،/ ونحوه، ولا أهل المصنفات كموطأ مالك وغيره في ذلك شيئـًا، بل عامة ما يروى في ذلك أحاديث مكذوبة موضوعة‏.‏ كما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد، ضمنت له على الله الجنة‏)‏ وهذا حديث موضوع، كذب باتفاق أهل العلم‏.‏

وكذلك ما يروي أنه قال‏:‏ ‏(‏من زارني بعد مماتي، فكأنما زارني في حياتي، ومن زارني بعد مماتي ضمنت له على الله الجنة‏)‏ ليس لشيء من ذلك أصل، وإنما كان قد روي بعض ذلك الدارقطني، والبزار في مسنده، فمدار ذلك على عبد الله بن عمر العمري‏.‏ أو من هو أضعف منه، ممن لا يجوز أن يثبت بروايته حكم شرعي‏.‏

وإنما اعتمد الأئمة في ذلك على ما رواه أبو داود في السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من رجل يسلم على إلا رد الله على روحي، حتى أرد عليه السلام‏)‏‏.‏ وكما في سنن النسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله وكل بقبري ملائكة تبلغني عن أمتي السلام‏)‏‏.‏ فالصلاة والسلام عليه مما أمر الله به ورسوله، فلهذا استحب ذلك العلماء‏.‏

ومما يبين ذلك أن مالكا ـ رحمـه الله ـ كره أن يقول الرجل‏:‏ / زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومالك قد أدرك الناس من التابعين، وهم أعلم الناس بهذه المسألة‏.‏ فدل ذلك على أنه لم تكن تعرف عندهم ألفاظ زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كره من كره من الأئمة أن يقف مستقبل القبر يدعو، بل وكره مالك وغيره أن يقوم للدعاء لنفسه هناك، وذكر أن هذا لم يكن من عمل الصحابة والتابعين، وأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها‏.‏

وقد ذكروا في أسباب كراهته، أن يقول‏:‏ زرت قبر النبي؛ لأن هذا اللفظ قد صار كثير من الناس يريد به الزيارة البدعية، وهي قصد الميت لسؤاله، ودعائه، والرغبة إليه في قضاء الحوائج، ونحو ذلك مما يفعله كثير من الناس، فهم يعنون بلفظ الزيارة مثل هذا، وهذا ليس بمشروع باتفاق الأئمة، فكره مالك أن يتكلم بلفظ مجمل يدل على معني فاسد، بخلاف الصلاة عليه والسلام‏.‏ فإن ذلك مما أمر الله به‏.‏

أما لفظ الزيارة في عموم القبور، فقد لا يفهم منها مثل هذا المعنى‏.‏ ألا تري إلى قوله‏:‏ ‏(‏فزوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة‏)‏ مع زيارته لقبر أمه‏؟‏ فإن هذا يتناول زيارة قبور الكفار، فلا يفهم من ذلك زيارة الميت لدعائه وسؤاله، والاستغاثة به، ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع، بخلاف ما إذا كان المزور معظما في الدين؛/ كالأنبياء، والصالحين‏.‏ فإنه كثيرًا ما يعني بزيارة قبورهم هذه الزيارة البدعية والشركية، فلهذا كره مالك ذلك في مثل هذا‏.‏ وإن لم يكره ذلك في موضع آخر ليس فيه هذه المفسدة‏.‏

فلا يمكن أحد أن يروي بإسناد ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه شيئا في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بل الثابت عنه في الصحيحين يناقض المعنى الفاسد الذي ترويه الجهال بهذا اللفظ‏.‏ كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم‏)‏‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لعن الله إليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏.‏ يحذر ما فعلوا‏.‏ قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ‏:‏ ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد‏)‏‏.‏ وأشباه هذه الأحاديث التي في الصحاح، والسنن، والكتب المعتمدة‏.‏

فكيف يعدل من له علم وإيمان عن موجب هذه النصوص الثابتة باتفاق أهل الحديث، إلى ما يناقض معناها من الأحاديث التي لم يثبت منها شيئـًا أحد من أهل العلم‏.‏ والله ـ سبحانه ـ أعلم، وصلى الله على محمد‏.‏

/ وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن زيارة النساء القبور‏:‏ هل ورد في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمـد لله رب العالمين، صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ ‏(‏لعن الله زوارات القبور‏)‏‏.‏ رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وصححه‏.‏ وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج‏.‏ رواه أهل السنن الأربعة‏:‏ أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ وأخرجه أبو حاتم في صحيحه‏.‏ وعلى هذا العمل في أظهر قولي أهل العلم‏:‏ أنه نهى زوارات القبور عن ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة‏)‏‏.‏

فـإن قيـل‏:‏ فالنهي عـن ذلك منسـوخ، كما قـال ذلك أهل القول الآخر، قيل‏:‏ هذا ليس بجيـد؛ لأن قـولـه‏:‏ ‏(‏كنت نهيتكم عن زيارة / القبور فزوروها‏)‏، هذا خطاب للرجال دون النساء، فـإن اللفـظ لفظ مذكر، وهو مختص بالذكور، أو متناول لغيرهم بطريق التبـع‏.‏ فـإن كان مختصًا بهـم، فـلا ذكر للنساء، وإن كان متناولاً لغيرهم، كان هذا اللفـظ عامـًا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏لعـن الله زوارات القبور‏)‏، خـاص بالنساء دون الرجال‏.‏ ألا تراه يقـول‏:‏ ‏(‏لعـن الله زوارات القبـور والمتخـذين عليها المساجد والسرج‏)‏‏؟‏ فالذين يتخذون عليها المساجـد والسـرج لعنهم الله، سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا‏.‏ وأما الذين يـزورون فإنما لعـن النساء الزوارات دون الرجـال، وإذا كـان هـذا خاصا ولم يعلم أنه متقـدم على الرخصـة، كـان متقـدمًا على العام عنـد عامـة أهـــل العلم، كذلك لو علم أنه كان بعدها‏.‏

وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان‏)‏‏.‏ فهذا عام، والنساء لم يدخلن في ذلك؛ لأنه ثبت عنه في الصحيح أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز‏.‏ عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ‏[‏نشيع‏]‏ ميتًا، فلما فرغنا، انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفنا معه، فلما توسطنا الطريق، إذا نحن بامرأة مقبلة، فلما دنت إذا هي فاطمة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أخرجك يا فاطمة من بيتك‏؟‏‏!‏‏)‏ قالت‏:‏ أتيت يا رسول الله أهل هذا / البيت فعزيناهم بميتهم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لعلك بلغت معهم الكُدَي‏.‏ أما إنك لو بلغت معهم الكُدَي ما رأيت الجنة، حتى يراها جد أبيك‏)‏‏.‏ رواه أهل السنن، ورواه أبو حاتم في صحيحه، وقد فسر ‏[‏الكدي‏]‏ بالقبور‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله‏:‏

هل الميت يسمع كلام زائره، ويري شخصه‏؟‏ وهل تعاد روحه إلى جسده في ذلك الوقت، أم تكون ترفرف على قبره في ذلك الوقت وغيره‏؟‏ وهل تصل إليه القراءة والصدقة من ناحليه وغيرهم، سواء كان من المال الموروث عنه وغيره‏؟‏ وهل تجمع روحه مع أرواح أهله وأقاربه الذين ماتوا قبله، سواء كان مدفونًا قريبًا منهم أو بعيدًا‏؟‏ وهل تنقل روحه إلى جسده في ذلك الوقت، أو يكون بدنه إذا مات في بلد بعيد‏؟‏ ودفن بها ينقل إلى الأرض التي ولد بها، وهل يتأذي ببكاء أهله عليه‏؟‏ والمسؤول من أهل العلم ـ رضي الله عنهم ـ الجواب عن هذه الفصول ـ فصلا، فصلا ـ جوابا واضحا، مستوعبًا لما ورد فيه من الكتاب والسنة، وما نقل فيه عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وشرح مذاهب الأئمة والعلماء‏:‏ أصحاب المذاهب، واختلافهم، وما الراجح من أقوالهم، مأجورين إن شاء الله تعالى‏.‏

/فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، نعم يسمع الميت ـ في الجملة ـ كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه‏)‏‏.‏ وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ترك قتلي بدر ثلاثا، ثم أتاهم فقال‏:‏ ‏(‏يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا‏؟‏ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا‏)‏‏.‏ فسمع عمر ـ رضي الله عنه ـ ذلك فقال‏:‏ يا رسول الله، كيف يسمعون، وأني يجيبون، وقد جيفوا‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده،ما أنت بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا‏)‏‏.‏ ثم أمر بهم فسحبوا في قليب بدر، وكذلك في الصحيحين عن عبد الله بن عمر‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر فقال‏:‏ ‏(‏هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا‏؟‏‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏إنهم يسمعون الآن ما أقول‏)‏‏.‏

وقد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أنه كان يأمر بالسلام على أهل القبور‏.‏ ويقول‏:‏ ‏(‏قولوا‏:‏ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقـون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجـرهم، ولا تفتنا بعـدهم، واغفـر لنا ولهم‏)‏‏.‏ فهـذا خطاب لهم، وإنما يخاطب من يسمع‏.‏ وروي ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم / أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السـلام‏)‏‏.‏

وفي السـنن عنـه أنـه قال‏:‏ ‏(‏أكثروا مـن الصـلاة على يـوم الجمعـة، وليلـة الجمعـة، فـإن صلاتكم معروضة على‏)‏،فقالوا‏:‏يا رسول الله،وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت‏؟‏ ـ يعني صرت رميما ـ فقال‏:‏‏(‏إن الله ـ تعالى ـ حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء‏)‏‏.‏وفي السـنن أنه قال‏:‏‏(‏إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام‏)‏‏.‏

فهذه النصوص وأمثالها تبين أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، ولا يجب أن يكون السمع له دائماً، بل قد يسمع في حال دون حال، كما قد يعرض للحي فإنه قد يسمع أحياناً خطاب من يخاطبه، وقد لا يسمع لعارض يعرض له، وهذا السمع سمع إدراك، ليس يترتب عليه جزاء، ولا هو السمع المنفي بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 80‏]‏، فإن المراد بذلك سمع القبول والامتثال‏.‏ فإن اللّه جعل الكافر كالميت الذي لا يستجيب لمن دعاه، وكالبهائم التي تسمع الصوت، ولا تفقه المعنى‏.‏ فالميت وإن سمع الكلام وفقه المعنى، فإنه لا يمكنه إجابة الداعي، ولا امتثال ما أمر به، ونهى عنه، فلا ينتفع بالأمر والنهي‏.‏ وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهي، وإن سمع الخطاب، وفهم المعنى، كما / قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وأما رؤية الميت‏:‏ فقد روي في ذلك آثار عن عائشة وغيرها‏.‏

 فصل

وأما قول القائل‏:‏ هل تعاد روحه إلى بدنه ذلك الوقت، أم تكون ترفرف على قبره في ذلك الوقت وغيره‏؟‏ فإن روحه تعاد إلى البدن في ذلك الوقت‏.‏ كما جاء في الحديث‏.‏ وتعاد ـ أيضاً ـ في غير ذلك‏.‏ وأرواح المؤمنين في الجنة كما في الحديث الذي رواه النسائي، ومالك والشافعي، وغيرهم‏:‏ ‏(‏إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه اللّه إلى جسده يوم يبعثه‏)‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش‏)‏‏.‏ ومع ذلك فتتصل بالبدن متي شاء اللّه، وذلك في اللحظة بمنزلة نزول الملك، وظهور الشعاع في الأرض، وانتباه النائم‏.‏

وهذا جاء في عدة آثار، أن الأرواح تكون في أفنية القبور، قال مجاهد‏:‏ الأرواح تكون على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارقه، فهذا يكون أحياناً‏.‏ وقال مالك بن أنس‏:‏ بلغني أن الأرواح مرسلة، تذهب حيث شاءت‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ فصل

وأما ‏[‏القراءة، والصدقة‏]‏ وغيرهما من أعمال البر، فلا نزاع بين علماء السنة والجماعة في وصول ثواب العبادات المالية، كالصدقة والعتق،كما يصل إليه ـ أيضاً ـ الدعاء والاستغفار، والصلاة عليه صلاة الجنازة، والدعاء عند قبره‏.‏

وتنازعوا في وصول الأعمال البدنية‏:‏ كالصوم، والصلاة، والقراءة‏.‏ والصواب أن الجميع يصل إليه، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من مات وعليه صيام، صام عنه وليه‏)‏‏.‏ وثبت ـ أيضاً ـ‏:‏ أنه أمر امرأة ماتت أمها، وعليها صوم، أن تصوم عن أمها‏.‏ وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمرو بن العاص‏:‏ ‏(‏لو أن أباك أسلم فتصدقت عنه، أو صمت، أو أعتقت عنه، نفعه ذلك‏)‏، وهذا مذهب أحمد، وأبي حنيفة، وطائفة من أصحاب مالك، والشافعي‏.‏

وأما احتجاج بعضهم بقوله تعالى‏:‏‏{‏وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 39‏]‏، فيقال له‏:‏ قد ثبت بالسنة المتواترة وإجماع الأمة‏:‏ أنه يصلى / عليه، ويدعى له، ويستغفر له‏.‏ وهذا من سعي غيره‏.‏ وكذلك قد ثبت ما سلف من أنه ينتفع بالصدقة عنه، والعتق، وهو من سعي غيره‏.‏ وما كان من جوابهم في موارد الإجماع، فهو جواب الباقين في مواقع النزاع‏.‏ وللناس في ذلك أجوبة متعددة‏.‏

لكن الجواب المحقق في ذلك أن اللّه ـ تعالى ـ لم يقل‏:‏ إن الإنسان لا ينتفع إلا بسعي نفسه، وإنما قال‏:‏‏{‏وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى‏}‏، فهو لا يملك إلا سعيه، ولا يستحق غير ذلك‏.‏ وأما سعي غيره فهو له، كما أن الإنسان لا يملك إلا مال نفسه، ونفع نفسه‏.‏ فمال غيره ونفع غيره هو كذلك للغير، لكن إذا تبرع له الغير بذلك، جاز‏.‏

وهكذا هذا إذا تبرع له الغير بسعيه نفعه اللّه بذلك، كما ينفعه بدعائه له، والصدقة عنه، وهو ينتفع بكل ما يصل إليه من كل مسلم، سواء كان من أقاربه، أو غيرهم، كما ينتفع بصلاة المصلىن عليه ودعائهم له عند قبره‏.‏

/ فصل

وأما قوله‏:‏ هل تجتمع روحه مع أرواح أهله وأقاربه‏؟‏ ففي الحديث عن أبي أيوب الأنصاري وغيره من السلف، ورواه أبو حاتم في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الميت إذا عرج بروحه تلقته الأرواح يسألونه عن الأحياء، فيقول بعضهم لبعض‏:‏ دعوه حتى يستريح، فيقولون له‏:‏ ما فعل فلان‏؟‏ فيقول‏:‏ عمل عمل صلاح‏.‏ فيقولون‏:‏ ما فعل فلان‏؟‏ فيقول‏:‏ ألم يقدم عليكم‏؟‏‏!‏ فيقولون‏:‏ لا‏.‏ فيقولون‏:‏ ذُهِب به إلى الهاوية‏)‏‏.‏ ولما كانت أعمال الأحياء تعرض عليه الموتي، كان أبو الدرداء يقول‏:‏ اللهم إني أعوذ بك أن أعمل عملا أخزي به عند عبد اللّه بن رواحة‏.‏ فهذا اجتماعهم عند قدومه يسألونه فيجيبهم‏.‏

وأما استقرارهم فبحسب منازلهم عند اللّه، فمن كان من المقربين كانت منزلته أعلى من منزلـة مـن كان من أصحاب اليمين‏.‏ لكن الأعلى ينزل إلى الأسفل، والأسفل لا يصعد إلى الأعلى، فيجتمعون إذا شاء اللّه، كما يجتمعون في الدنيا مع تفاوت منازلهم، ويتزاورون‏.‏

/وسواء كانت المدافن متباعدة في الدنيا، أو متقاربة، قد تجتمع الأرواح مع تباعد المدافن، وقد تفترق مع تقارب المدافن، يدفن المؤمن عند الكافر، وروح هذا في الجنة، وروح هذا في النار، والرجلان يكونان جالسين أو نائمين في موضع واحد، وقلب هذا ينعم، وقلب هذا يعذب‏.‏ وليس بين الروحين اتصال‏.‏ فالأرواح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف‏)‏‏.‏

والبدن لا ينقل إلى موضع الولادة، بل قد جاء‏:‏ ‏(‏إن الميت يذر عليه من تراب حفرته‏)‏ ومثل هذا لا يجزم به، ولا يحتج به‏.‏ بل أجود منه حديث آخر فيه‏:‏ ‏(‏إنه ما من ميت يموت في غير بلده، إلا قيس له من مسقط رأسه إلى منقطع أثره في الجنة‏)‏‏.‏ والإنسان يبعث من حيث مات، وبدنه في قبره مشاهد، فلا تدفع المشاهدة بظنون لا حقيقة لها، بل هي مخالفة في العقل، والنقل‏.‏

 

فصل

وأما قول السائل‏:‏ هل يؤذيه البكاء عليه ‏؟‏

فهذه مسألة فيها نزاع بين السلف والخلف والعلماء‏.‏ والصواب / أنه يتأذي بالبكاء عليه، كما نطقت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه‏)‏‏.‏وفي لفظ ‏(‏من ينَح عليه، يعذب بما نيح عليه‏)‏‏.‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ أن عبد اللّه بن رواحة لما أغمي عليه جعلت أخته تندب، وتقول‏:‏ وا عضداه وا ناصراه،فلما أفاق قال‏:‏ ما قلت لي شيئاً إلا قيل لي‏:‏ أكذلك أنت ‏؟‏

وقد أنكر ذلك طوائف من السلف والخلف، واعتقدوا أن ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره، فهو مخالف لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ثم تنوعت طرقهم في تلك الأحاديث الصحيحة‏.‏

فمنهم مـن غلط الرواة لها، كعمـر بن الخطـاب وغـيره‏.‏ وهـذه طريقـة عائشة، والشافعي وغيرهما‏.‏

ومنهم من حمل ذلك على ما إذا أوصي به فيعذب على إيصائه، وهو قول طائفة‏:‏ كالمزني، وغيره‏.‏

ومنهم من حمل ذلك على ما إذا كانت عادتهم، فيعذب على ترك النهي عن المنكر، وهو اختيار طائفة‏:‏ منهم جدي أبو البركات، وكل / هذه الأقوال ضعيفة جداً‏.‏

والأحاديث الصحيحة الصريحة ـ التي يرويها مثل عمر بن الخطاب، وابنه عبد اللّه، وأبي موسى الأشعري، وغيرهم ـ لا ترد بمثل هذا‏.‏ وعائشة أم المؤمنين ـ رضي اللّه عنها ـ لها مثل هذا نظائر ترد الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد لاعتقادها بطلان معناه، ولا يكون الأمر كذلك‏.‏ ومن تدبر هذا ال

باب، وجد هذا الحديث الصحيح الصريح الذي يرويه الثقة لا يرده أحد بمثل هذا إلا كان مخطئا‏.‏

وعائشة ـ رضي اللّه عنها ـ روت عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظين ـ وهي الصادقة فيما نقلته ـ فروت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله‏:‏ ‏(‏إن اللّه ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه‏)‏‏.‏ وهذا موافق لحديث عمر، فإنه إذا جاز أن يزيده عذابا ببكاء أهله، جاز أن يعذب غيره ابتداء ببكاء أهله؛ ولهذا رد الشافعي في مختلف الحديث هذا الحديث نظرا إلى المعنى‏.‏ وقال‏:‏ الأشبه روايتها الأخري ‏(‏إنهم يبكون عليه، وإنه ليعذب في قبره‏)‏‏.‏

والذين أقروا هذا الحديث على مقتضاه، ظن بعضهم أن هذا من باب عقوبة الإنسان بذنب غيره، وأن اللّه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد‏.‏ واعتقد هؤلاء أن اللّه يعاقب الإنسان بذنب غيره، فجوزوا / أن يدخلوا أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم‏.‏ وهذا وإن كان قد قاله طوائف منتسبة إلى السنة، فالذي دل عليه الكتاب والسنة‏:‏ أن اللّه لا يدخل النار إلا من عصاه‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏، فلابد أن يملأ جهنم من أتباع إبليس، فإذا امتلأت لم يكن لغيرهم فيها موضع، فمن لم يتبع إبليس، لم يدخل النار‏.‏

وأطفال الكفار أصح الأقوال فيهم‏:‏ أن يقال فيهم‏:‏ اللّه أعلم بما كانوا عاملين‏.‏ كما قد أجاب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏.‏ فطائفة من أهل السنة وغيرهم قالوا‏:‏ إنهم كلهم في النار، واختار ذلك القاضي أبو يعلى، وغيره، وذكر أنه منصوص عن أحمد، وهو غلط على أحمد‏.‏ وطائفة جزموا أنهم كلهم في الجنة، واختار ذلك أبو الفرج بن الجوزي، وغيره، واحتجوا بحديث فيه رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لما رأي إبراهيم الخليل، وعنده أطفال المؤمنين، قيل‏:‏ يارسول اللّه، وأطفال المشركين‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏وأطفال المشركين‏)‏‏.‏

والصواب أن يقال فيهم‏:‏ اللّه أعلم بما كانوا عاملين، ولا يحكم لمعين منهم بجنة ولا نار، وقد جاء في عدة أحاديث أنهم يوم القيامة في عرصات القيامة يؤمرون وينهون، فمن أطاع، دخل الجنة، ومن / عصى، دخل النار، وهذا هو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة والجماعة‏.‏

والتكليف إنما ينقطع بدخول دار الجزاء وهي الجنة والنار،وأما عرصات القيامة فيمتحنون فيها كما يمتحنون في البرزخ، فيقال لأحدهم‏:‏ من ربك‏؟‏ وما دينك‏؟‏ ومن نبيك‏؟‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 42، 43‏]‏‏.‏ وقد ثبت في الصحيح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يتجلي اللّه لعباده في الموقف، إذا قيل‏:‏ ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون‏.‏ فيتبع المشركون آلهتهم، ويبقي المؤمنون فيتجلي لهم الرب الحق في غير الصورة التي كانوا يعرفون فينكرونه، ثم يتجلي لهم في الصورة التي يعرفون، فيسجد له المؤمنون، وتبقي ظهور المنافقين كقرون البقر، فيريدون أن يسجدوا فلا يستطيعون‏.‏ وذلك قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ‏}‏‏)‏ الآية ‏[‏القلم‏:‏ 42‏]‏‏.‏ والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

والمقصود ههنا أن اللّه لا يعذب أحداً في الآخرة إلا بذنبه، وأنه لا تزر وازرة وزر أخري‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه‏)‏، ليس فيه أن النائحة لا تعاقب، بل النائحة تعاقب على النياحة، كما في / الحديث الصحيح‏:‏ أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تلبس يوم القيامة درعا من جرب وسربالا من قطران‏.‏ فلا يحمل عمن ينوح وزره أحد‏.‏

وأما تعذيب الميت‏:‏ فهو لم يقل‏:‏ إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه‏.‏ بل قال‏:‏ ‏[‏يعذب‏]‏ والعذاب أعم من العقاب، فإن العذاب هو الألم، وليس كل من تألم بسبب، كان ذلك عقاباً له على ذلك السبب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏ فسمي السفر عذاباً، وليس هو عقاباً على ذنب‏.‏

والإنسان يعذب بالأمور المكروهة التي يشعر بها، مثل الأصوات الهائلة، والأرواح الخبيثة، والصور القبيحة، فهو يتعذب بسماع هذا وشم هذا، ورؤية هذا، ولم يكن ذلك عملا له عوقب عليه، فكيف ينكر أن يعذب الميت بالنياحة وإن لم تكن النياحة عملا له‏.‏ يعاقب عليه ‏؟‏

والإنسان في قبره يعذب بكلام بعض الناس، ويتألم برؤية بعضهم، وبسماع كلامه، ولهذا أفتي القاضي أبو يعلى‏:‏ بأن الموتي إذا عمل عندهم المعاصي فإنهم يتألمون بها، كما جاءت بذلك الآثار‏.‏ فتعذيبهم / بعمل المعاصي عند قبورهم كتعذيبهم بنياحة من ينوح عليهم‏.‏ ثم النياحة سبب العذاب‏.‏

وقد يندفع حكم السبب بما يعارضه، فقد يكون في الميت من قوة الكرامة ما يدفع عنه من العذاب، كما يكون في بعض الناس من القوة ما يدفع ضرر الأصوات الهائلة، والأرواح والصور القبيحة‏.‏

وأحاديث الوعيد يذكر فيها السبب‏.‏ وقد يتخلف موجبه لموانع تدفع ذلك‏:‏ إما بتوبة مقبولة، وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفرة، وإما بشفاعة شفيع مطاع، وإما بفضل اللّه ورحمته ومغفرته، فإنه ‏{‏لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وما يحصل للمؤمن في الدنيا والبرزخ والقيامة من الألم التي هي عذاب، فإن ذلك يكفر اللّه به خطاياه، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذي، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر اللّه بها من خطاياه‏)‏‏.‏

وفي المسند لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 123‏]‏، قال أبو بكر‏:‏ يارسول اللّه، جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً‏؟‏‏!‏ / فقال‏:‏ ‏(‏يا أبا بكر، ألست تحزن ‏؟‏‏!‏ ألست يصيبك الأذي‏؟‏‏!‏‏)‏ فإن الجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏‏.‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إنهم إذا عبروا على الصراط، وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة‏)‏‏.‏ والكلام في هذه المسألة مبسوط في غير هذا الجواب‏.‏ واللّه أعلم بالصواب‏.‏

وما ذكرنا في أن الموتي يسمعون الخطاب، ويصل إليهم الثواب، ويعذبون بالنياحة‏.‏ بل وما لم يسأل عنه السائل من عقابهم في قبورهم وغير ذلك، فقد يكشف لكثير من أبناء زماننا يقظة ومناماً، ويعلمون ذلك، ويتحققونه‏.‏ وعندنا من ذلك أمور كثيرة‏.‏ لكن الجواب في المسائل العلمية يعتمد فيه على ما جاء به الكتاب والسنة، فإنه يجب على الخلق التصديق به، وما كشف للإنسان من ذلك، أو أخبره به من هو صادق عنده، فهذا ينتفع به من علمه، ويكون ذلك مما يزيده إيماناً وتصديقاً بما جاءت به النصوص، ولكن لا يجب على جميع الخلق الإيمان بغير ما جاءت به الأنبياء، فإن اللّه ـ عز وجل ـ أوجب التصديق بما جاءت به الأنبياء، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ واإليوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين عن النبي / صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر‏)‏‏.‏

فالمحـدث الملهـم المكاشف من هذه الأمة يجب عليه أن يزن ذلك بالكتاب والسنة، فإن وافق ذلك صدق ما ورد عليه، وإن خالف لم يلتفت إليه‏.‏ كما كان يجب على عمر ـ رضي اللّه عنه ـ وهو سيد المحدثين إذا ألقي في قلبه شيء، وكان مخالفاً للسنة لم يقبل منه، فإنه ليس معصوماً، وإنما العصمة للنبوة‏.‏

ولهذا كان الصديق أفضل من عمر، فإن الصديق لا يتلقي من قلبه، بل من مشكاة النبوة، وهي معصومة، والمحدث يتلقي تارة عن قلبه، وتارة عن النبوة، فما تلقاه عن النبوة فهو معصوم يجب اتباعه، وما ألهم في قلبه‏:‏ فإن وافق ما جاءت به النبوة، فهو حق، وإن خالف ذلك، فهو باطل‏.‏

فلهذا لا يعتمد أهل العلم والإيمان في مثل مسائل العلم والدين إلا على نصوص الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، وإن كان عندهم في بعض ذلك شواهد وبينات مما شاهدوه ووجدوه، ومما عقلوه وعملوه، وذلك ينتفعون به هم في أنفسهم، وأما حجة اللّه ـ تعالى ـ على عباده، فهم رسله، وإلا فهذه المسائل فيها من الدلائل والاعتبارات العقلية والشواهد /الحسية الكشفية ما ينتفع به من وجد ذلك، وقياس بني آدم وكشفهم تابع لما جاءت به الرسل عن اللّه ـ تعالى ـ فالحق في ذلك موافق لما جاءت به الرسل عن اللّه ـ تعالى ـ لا مخالف له، ومع كونه حقاً، فلا يفصل الخلاف بين الناس، ولا يجب على من لم يحصل له ذلك التصديق به، كما يجب التصديق بما عرف أنه معصوم، وهو كلام الأنبياء - صلوات اللّه وسلامه عليهم‏.‏

ولكن من حصل له في مثل هذه الأمور بصيرة أو قياس أو برهان، كان ذلك نوراً على نور‏.‏ قال بعض السلف‏:‏ بصيرة المؤمن تنطق بالحكمة، وإن لم يسمع فيها بأثر‏.‏ فإذا جاء الأثر، كان نوراً على نور‏{‏وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏‏.‏ قال تعالى‏:‏‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏‏.‏

/ وسئل ـ رَحمه اللّه‏:‏

هل يتكلم الميت في قبره أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

يتكلم، وقد يسمع ـ أيضاً ـ من كلمه، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنهم يسمعون قرع نعالهم‏)‏‏.‏ وثبت عنه في الصحيح‏:‏ أن الميت يسأل في قبره فيقال له‏:‏ من ربك ‏؟‏ وما دينك‏؟‏ ومن نبيك‏؟‏ فيثبت اللّه المؤمن بالقـول الثابت، فيقول‏:‏ اللّه ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيي، ويقال له‏:‏ ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم‏؟‏ فيقول المؤمن‏:‏ هو عبد اللّه ورسوله، جاءنا بالبينات والهدي، فآمنا به، واتبعناه‏.‏ وهذا تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها نزلت في عذاب القبر‏.‏

وكذلك يتكلم المنافق فيقول‏:‏ آه ‏!‏ آه ‏!‏ لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان‏.‏

/وثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏لولا ألا تدافنوا لسألت اللّه أن يسمعكم من عذاب القبر مثل الذي أسمع‏)‏‏.‏ وثبت عنه في الصحيح‏:‏ أنه نادي المشركين يوم بدر لما ألقاهم في القليب، وقال‏:‏ ‏(‏ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‏)‏‏.‏ والآثار في هذا كثيرة منتشرة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 

وسئل عن بكاء الأم والأخوة على الميت‏:‏ هل فيه بأس على الميت ‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما دمع العين،وحزن القلب، فلا إثم فيه، لكن الندب والنياحة منهي عنه، وأي صدقة تصدق بها عن الميت نفعه ذلك‏.‏

 

وسئل عما يتعلق بالتعزية‏؟‏

فأجاب‏:‏

التعزية مستحبة، ففي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من عزى مصاباً، فله مثل أجره‏)‏‏.‏وأما قول القائل‏:‏/ ما نقص من عمره زاد في عمرك،فغير مستحب، بل المستحب أن يدعى له بما ينفع، مثل أن يقول‏:‏ أعظم اللّه أجرك، وأحسن عزاك، وغفر لميتك‏.‏

وأما نقص العمر وزيادته، فمن الناس من يقول‏:‏ إنه لا يجوز بحال، ويحمل ما ورد على زيادة البركة، والصواب أنه يحصل نقص وزيادة عما كتب في صحف الملائكة‏.‏ وأما علم اللّه القديم، فلا يتغير‏.‏

وأما اللوح المحفوظ‏:‏ فهل يغير ما فيه ‏؟‏ على قولين‏.‏ وعلى هذا يتفق ما ورد في هذا الباب من النصوص‏.‏

وأما صنعة الطعام لأهل الميت، فمستحبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم‏)‏‏.‏ لكن إنما يطيب إذا كان بطيب نفس المهدي، وكان على سبيل المعاوضة، مثل أن يكون مكافأة عن معروف مثله‏.‏ فإن علم الرجل أنه ليس بمباح، لم يأكل منه، وإن اشتبه أمره فلا بأس بتناول اليسير منه إذا كان فيه مصلحة راجحة، مثل تاليف القلوب، ونحو ذلك‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل عمن يقرأ القرآن، وينوح على القبر، ويذكر شيئاً لا يليق، والنساء مكشفات الوجوه، والرجال حولهم‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، النياحة محرمة على الرجال والنساء عند الأئمة المعروفين‏.‏

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها، فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب، وسربالا من قطران‏.‏ وفي السنن عنه‏:‏ أنه لعن النائحة، والمستمعة‏.‏ وفي الصحيح عنه قال‏:‏ ‏(‏ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية‏)‏‏.‏

وكشف النسـاء وجوههـن بحـيث يراهـن الأجانب غيـر جائـز، وعلى ولـي الأمـر الأمـر بالمعروف، والنهي عن هذا المنكر، وغيره، ومن لم يرتدع، فإنه يعاقب على ذلك بما يزجره، لا سيما النوح للنساء عند القبور، فإن ذلك من المعاصي التي يكرهها اللّه ورسوله، من الجزع والندب والنياحة، وإيذاء الميت، وفتنة الحي، وأكل أموال الناس بالباطل، وترك ما أمر اللّه بـه ورسوله من الصبر والاحتساب، وفعل أسباب الفواحش، وفتح بابها، ما يجب على المسلمين أن ينهوا عنه‏.‏ واللّه أعلم‏.‏ وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏